تقع كنيسة الرعيّة الضخمة هذه، المكرّسة على اسم القدّيس جاورجيوس عند قمّة التلـّة التي تحتلـّها قرية أميون القديمة.
هي ذات مخطـّط بازيليكيّ، مع حنيّة رئيسيّة دائريّة بارزة نحو الخارج. يعلو صحن الكنيسة الرئيسيّ عقد سريريّ في حين أنّ الأقسام الجانبيّة أقلّ ارتفاعًا وتعلوها عقود متصالبة. يفصل بين الصحون جداران يحوي كل منهما ثلاث قناطر تتكئ على ستة أعمدة مستطيلة الشكل، بني معظمها بكتل صخريّة قديمة ضخمة أعيد هنا أستعمالها. يندمج العمودان في الجهة الغربيّة بالحائط الغربي، أمّا في الجهة الشرقيّة فقد أدمج العمودان الشرقيّان بالجدار الذي تنطلق منه نحو الشرق الحنيّة ف يحجب جزءًا من عمودين آخرين دائريّين يرقيان إلى القرون الوسطى.
كما في سائر أقسام الكنيسة، فإنّ الحنيّة قد بنيت بحجارة من مخلـّفات صرح قديم ، قد يكون معبدًا من العصر الرومانيّ، إذ نجد فيها حجارة ضخمة استعملت بشكل خاصّ كركائز داخليّة للجدران، لا سيما في الجهة الجنوبيّة. نلاحظ أنّ أيّا من هذه الحجارة قد أعيد استعمالها في المكان المخصّص لها أصلاً. بالإضافة إلى ذلك فإنّ سكان القرية يعبّرون بعفويّة عن وجود فتحة مغلقة اليوم تحت صحن الكنيسة تصل الكنيسة بدهليز تحت الأرض يؤدّي إلى سفح التلـّة. قد تكون فوهة جبّ أو أساسات المعبد الروماني.
يرقى جدار الحنيّة دون أدنى شكّ إلى القرون الوسطى. كما هو حال الواجهة الخارجيّة لهذه الحنيّة التي بنيت بحجارة قديمة متوسطة الحجم. يتوسّط الحنيّة في الداخل إفريز مزخرف يحيط بالنافذة المقوّسة التي يصل أعلاها حتـّى تجويف الحنيّة. فعند انطلاق التدويرة النصفيّة للحنيّة، بعد شرخ معماري يبدو للعيان، نلاحظ بأنّ زخرفة الإفريز تصل إلى قمة تاجي العمودين.
النافذة، ذات الإطار الحديث، متقيدة تمامًا بالتقليد المعماريّ الصليبيّ. نجد مثيلاً لها في كاتدرائيّة القدّيس يوحنا في جبيل، وكنيستي القدّيسة كاترينا في أنفة والمخلـّص في كبّا،... والأمر ذاته ينطبق على الواجهة الغربيّة التي تحوي منفس محاط بفتحتين، على شكل مَرامي.
داخل الكنيسة، هناك عمودان موضوعان عند انطلاق تدويرة الحنيّة، يسبغان على البناء طابعه الغربيّ. هما كاملان، وتاليًا في موضعهما الأصليّ، يتألـّف كلٌّ منهما من قاعدة عمود وجذعه بمداميكه المتعدّدة، وتاج العمود. وتاجا العمودين هذان، الغربيّا الطابع دون أدنى شكّ، هما قطعتان فريدتان وجديرتان بالانتباه ضمن قائمة الفنون الصليبيّة في الأراضي المقدّسة.
كان من المفترض في الأساس أن ترتكز على هذين العمودين مداميك القوسين الشرقيَّين في القناطر التي تفصل الكنيسة إلى ثلاثة صحون. لكنهما اعتـُمِدا في بناء الركنين المستطيلين المستندة إليهما الحنيّة. وهذان الركنان هما بدهيًّا لاحقين للعمودين.
تاج العمود الشماليّ الذي أعتني بالحفاظ عليه وتتاح قراءة ملامحه على الجهتين الجنوبيّة والغربيّة فقط، ذلك أن سائر جهاته حجبت تحت الحنيّة أو نتيجة للإنشاءات اللاحقة، يعلوه إفريز الحنيّة. تحوي سلـّة التاج، المحاطة بـِطـَوق العمود وسَطيحة التاج، في جزئها الأعلى بصف من النتوءات المنحوتة تمثـّل خمسة وجوه: من المؤكـّد أنّ الوجه المتمركز في الوسط تحت زاوية الطـَوق وجه حيوان، ويرجَّح أنـّه من فصيل السنوريات، كشـّر عن أنيابه. وكذلك يرجـّح الأمر ذاته بالنسبة إلى الوجه الثاني على الجانب الأيمن. والوجه الأخير على هذه الجهة يمثل رجلاً حليق الذقن دون الشارب. أما الوجهان المنحوتان على الجهة الغربيّة فهما وجهان بشريّان وجنتاهما بارزتان بوضوح. يمثـّل الوجه الأوسط امرأة أسدلت شعرها الطويل على كتفيها، والوجه الثاني يشبه الأول لكنه لرجل حليق الذقن دون الشارب.
أمّا تاج العمود الجنوبيّ فحالته سيئة مقارنة مع الأوّل: لا يحوي طـَوق العمود ولا سَطيحة تاج، ويختلف نوعًا ما عن السابق. فهو يحتلّ مكانًا موازيًا له ولأسباب مماثلة، وهو ظاهر للعيان من جهتين. الجهة الشماليّة، نحت في وسطها صورة بشريّة نصفيّة، حيث يظهر فقط الصدر والوجه. على اليسار وتحت صولجان تاج العمود، يوجد نحت نصفيّ لحيوان من فصيل السنوريات وجهه مهشّم. كذلك الأمر بالنسبة إلى الوجه الذي نجده على اليمين مشوّه إلى حدٍّ يستحيل معه تقدير ملامحه. نستطيع فقط ملاحظة عنق متطاول ووجه بيضاوي. أما الجهة الغربيّة لتاج العمود فهي عصيّة على تقدير ما تحويه من صور.
قاعدة العمودين، فوق الوطيدة (التي هي الجزء المنخفض المربّع من القاعدة)، زيّنت بإكليل من زخارف بيضيّة يعلوها عقد للجواهر. هذا النمط بتزيين قاعدة العمود يستوحي أشكالاً قديمة تبدو بدورها فريدة في القائمة الشائعة في فن النحت الصليبيّ في الأراضي المقدّسة. لا نجد شيئـًا قابلاً للمقارنة في كل النماذج الموجودة في المنشورات الصادرة حول الآثار الصليبيّة. على كلّ حال هما ليس قطع أعيد استعمالها هنا، هما في مكانها طالما أنّ كلا القاعدتين متشابهتان ومتكيّفتان مع جذع العمود وتاجه.
من المؤكـّد أيضًا بأنّ جدار الحنيّة فقط، ذاك الذي يحمل القبّة النصفيّة والمُحاط بعمودين غربيّين لا يخامرهما شكّ، يرقى إلى الحقبة الصليبيّة. أمّا ما تبقـّى فمتأخر، ويرقى على الأرجح إلى القرن الثامن عشر.
على امتداد الجانب الشماليّ، رواق مؤلـّف من ثلاث فسحات تعلوها عقود متصالبة مشرّعة نحو الشمال بثلاثة أقواس. تحمل ستة أعمدة ضخمة، بنيت أساسًا بحجارة قديمة، مداميك العقود المتصالبة هذه. هناك قوس كدعامة للسقف يفصل بين العقود. يقع باب المدخل في وسط الفسحة الثانية داخل قنطرة لها قوسين منقوشان. القوس المنقوش الأعلى بمثابة كورنيش يحمل مداميك العقد، مزخرف بسعف النخل التي تنطبق مع النماذج العائدة للعصر العثماني.
يطالعنا عرش أسقفيّ ضخم حجريّ مبني داخل صحن الكنيسة. يتـّكئ على العمود الجنوبيّ لفسحة الصحن الأولى. يُصعَد إليه بثلاث درجات. قائمتا العرش الأماميتان هما نصف عمودين مضفورين يعلو كلٌّ منهما تاج مزخرف برسوم متناسقة.
أيقونسطاس مبنيّ يحجب الهيكل على مدى عرض الكنيسة.
من المحتمل جدًّا أن تكون الكنيسة قد بنيت فوق موقع قديم، كان بلا شكٍّ معبدًا. ومن المؤكـّد أنّ مقاييس الحجارة الضخمة التي أعيد استعمالها، وأحجام هذه الحجارة، توحي بهذا الأمر. حجارة أخرى موزّعة هنا وهناك تشير بالتحديد إلى الطابع الدينيّ للموقع.
ثمة جرن طقسيّ كبير دائريّ من الحجر المشذ ّب موضوع حاليًّا في الحديقة وراء الهيكل. هو جرن مزوّد بمسكتين مستعارتين عند حافـّته. نجد عند القعر ثقبًا للتصريف. وجدت أجران متشابهة في قلعة فقرا، دير القلعة وفي حنـّوش، لا يدنو أيّ شك من وظيفتها الدينيّة مع أنّ تحديد نوعيّة هذه الوظيفة ما زالت غير متبلـّرة. وُجد الجرنان الأوّلان داخل آثار معبدٍ. أمّا الجرن المكتشَف في حنـّوش، فقد وُجدت عند أطرافه كتابة تشير إلى إله ما وهو تاليًا لا يترك أيّ شكّ بطابعه الدينيّ. هذه الإشارات تدفعنا إلى الظنّ بأنّ الجرن الموجود في أميون أرتبط بدوره يومًا بمعبد وثنيّ.
وهناك تاج عمود كورنثيّ على النمط الرومانيّ يستند عند الحائط الجنوبيّ وقد أ ُدرج بين الأثاث الليتورجيّة. فقد جوّف سطحه ليغدو جرن معموديّة صغير. هذا التحوّل في وظيفة تاج عمود روماني شائع، إذ نجده في بكفتين وفي البلمند.
وضعت مائدة قديمة من الرخام المشغول بعناية في الزاوية الشماليّة للحنيّة. نـُحتت على واجهتها الغربيّة كوّة نصف دائريّة بداخلها تمثال ناتئ عبثت بمعالمه الأيدي. المظهر الإجماليّ للتمثال ترجّح صورة إنسان واقفٍ على قدميه أو متربّع ٍ على العرش، يمسك بيده اليسرى صولجانـًا. اليوم، تستخدم هذه المائدة في الهيكل كمذبح.
وهناك أيضًا قطعة من كورنيش من معلم أقدم موضوعة اليوم في الحديقة وراء هيكل الكنيسة.
*
* *
كما يجري عادة، فقد خضعت كنيسة القدّيس جاورجيوس في أميون لأعمال ترميم وتجديد عديدة. فقد بني القسم الأكبر منها بحجارة أعيد استعمالها من معلم قديم قد يكون معبدًا رومانيًّا على الأرجح. والقطع القديمة التي أشرنا إليها لا يعتريها أيّ شك.
بالمقابل، لم نجد في هذا الصرح أيّة قطعة أو أيّ عنصر ينتميان إلى العصر البيزنطيّ على وجه التحديد. إنـّما قد تكون الكنيسة القروسطيّة، المثبتة هويتها عبر تيجان الأعمدة والكورنيش المزخرف، قد حلـّت مكان كنيسة بيزنطيّة. عدا ذلك وإجمالاً، فإنّ البنية العامّة لهذا المعلـَم الدينيّ، وبخاصّة السقف المعقود، ترقى غالبًا إلى القرن الثامن عشر.
ليفون نورديكيان
آب ٢٠٠٧
تعريب الأب جورج برباري
|